في كل مائة عام ممكن أن يظهر طبيب، يكون قمة في المهنية وقمة في الإنسانية، في عصرنا هذا، ذلك الطبيب هو الدكتور محمد عبدالغفار مشالي، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى في الجنة.
إنه " طبيب القرن" كما أسميه أنا" أو كما يطلقون عليه ب" طبيب الغلابة".
توفي في الساعات الأولى من صباح يوم أمس الثلاثاء الموافق الثامن والعشرين من يوليو ٢٠٢٠م،
له عيادة في محافظة الغربية في جمهورية مصر العربية، يستقبل فيها مرضاه، لم يتجاوز سعر المعاينة فيها عن الـ10 جنيهات. أي ما يعادل نصف دولار تقريباً، كانت بداية رحلته الإنسانية، كما يقول هو: ذات مرة أحتاج أحد الأطفال بعمر العاشرة حقنة الإنسولين بسبب إصابته بمرض السكري النوع الأول الذي يصيب صغار السن، فقالت له أمه، يا بني المبلغ الذي لدي لا يكفي إلا للإنسولين أو لإطعام إخوتك، فقام الطفل بحرق نفسه، وعندما حاول الدكتور محمد المشالي لفه بالبطانية كمحاولة لإنقاذه، قال الصبي قبل مماته لقد أحرقت نفسي كي يبقى المال لإطعام إخوتي، ..
بعدها أقسم الدكتور محمد مشالي، أن يسخر حياته لخدمة الفقراء.
ولد في البحيرة عام 1944م، كان والده يتمنى أن يكون طبيباً لكنه لم يتوفق في ذلك، وقرر أن يكون إبنه الأول طبيباً مهما كلفه الثمن- الأبن عندما كبر كان لديه ميول لدراسة الحقوق على الرغم من تفوقه في الدراسة، لكن والده أصر عليه أن يدخل الطب وإلا لن يصرف عليه فاضطر للدخول لدراسة الطب في القصر العيني وتخرج من كلية الطب سنة 1967 م.
وتوفي والده يوم تخرجه، نصحه أبوه أن يظل يتابع طه حسين وكتاباته، فتأثر بكتابات طه حسين وكذلك نصائحه- قال طبيب الإنسانية الدكتور محمد المشالي أنه كان يشاهد في التلفاز لقاء مع طه حسين، وسأله المذيع، عن النصيحة التي يوجهها للشباب الطالع فقال: القراءة القراءة.
ومنذ ذلك الحين والدكتور مشالي يقرأ كل شيء لدرجة أن قطعة الصحيفة الملفوف بها الساندويتش الذي يأكله لا يرميها سلة المهملات حتى يقرأها.
قال أن القراءة الكثيرة أفادته في حياته، جعلته صبوراً، وذا قيم وجعلته شخصاً ملتزماً، وصنعت له إتزاناً في حياته الخاصة يمنعه من التهور والإندفاع وإرتكاب الأخطاء.
إنه تعود بأن يمضي في طريقه ولا يأبه للمعيقين، لأنه مؤمن بالمثل القائل"القافلة تسير والكلاب تنبح".
أفضل كتاب قرأه حسب وصفه، كان لطه حسين" المعذبون في الأرض" هذا الكتاب من أحد الأسباب الذي جعله يتعاطف مع الفقراء إلى أبعد حد، وينصح بقراءته.، وقال أن "كل إنسان مهيئ لما خلق له" والله خلقه "للغلابة" حسب وصفه، إنه يعمل في عيادته من العاشرة صباحاً وحتى التاسعة مساءً حتى في أيام العطل الرسمية والدينية.
قال في إحد اللقاءات الصحفية بأنه لم تحصل له ضائقة مادية قط، وكيف له وحاجاته في هذه الدنيا محدودة وليس لديه أطماع فيها، على الرغم أنه ورث بعد وفاة والده مسؤولية خمسة من إخوته بل وورث إلى جانبهم مسؤولية ثلاثة أيتام وهم أبناء أخيه بعد وفاته، وعلمهم وتحمل مسؤوليتهم حتى أصبحوا ذوي علم وشأن.
عندما سأله احد الإعلاميين، ألا تخرج للنزهة والتسلية والإسترخاء، قال له نزهتي وسعادتي في خدمة مرضاي، نعم هذا الرجل قد جُبل على خدمة مرضاه من الفقراء، وجبلُ بأن يسعد بذلك، وأي مكرمة تلك من الخالق عندما يجعل السعادة في عبده بالعطاء لا بالأخذ.
جاءه ذات مرة مندوب البرنامج الإماراتي المعروف" قلبي أطمأن" وعرض عليه الملايين من الجنيهات من اجل شراء عيادة جديدة بدلاً من عيادته المهترئة والقديمة، مع العلم أن عيادته كانت مستأجرة ولم تكن ملك له حتى وفاته رحمه الله، فرفض المبالغ والعرض وقال له خذ هذه المبالغ وضعها في أحدى الجمعيات الخيرية لدعم الفقراء، وقال أنا لن أذهب من هنا لأن هذه العيادة خاصة بالفقراء وتشبههم، وأنا لا أريد الملايين لأنني أبتغي مرضاة الله.
مثلما غادر الحياة هذا العظيم غادرها اولئك الذين كانوا يملكون السلطة والقصور والمليارات، يا ترى من منهم ظل حياً في قلوب الملايين؟ ومن منهم يربوا رصيده بالدعاء من الآلاف بل والملايين، الذين عرفوه ولا سيما اولئك المرضى الذين أصبغ على حياتهم لمسات الشفاء والإنسانية والرحمة.
ياترى أي مُلك بين يديك أيها الزاهد في الدنيا وأنت الآن أمام ربك، مرفوع الهامة عزيز المقام مقارنة بأولئك الأقزام المفلسون الإذلاء من الملوك والرؤساء الخونة الذين باعوا أوطانهم بثمن بخس، الذين هم لا شيء أمام إمبراطورية حسناتك وأرصدتك البنكية الدائمة عند ربك، التي لا تنضب.
ياقدوتي في الإنسانية وفي عزة النفس، أيها النبيل، أيها العظيم، إنني أحتاج زمناً وجهاداً وتوفيقاً عظيماً من الله حتى أربو إلى مقامك، وسأظل في هذا الجهاد على أمل بلوغ مقامك العالي، فقد بلغت القمة ، فذلك عصرك وتلك طريقتك وليس لنا أن ننافسك فيها، ولنا إن شاء الله طريقتنا وعصرنا، علَّنا نخطوا إنسانياً في طريقك ونبلغ عُلاك.
قد أطلب من المجتمع الطبي العربي بل والعالمي أن يخلدوا إسمك وأن يجعلوا يوم رحيلك هو "يوماً للطبيب المثالي"، لا يوماً للطبيب كأي طبيب، لعل الرحمة والرأفة تتحرك في مستنقعات الضمائر الراكدة في أسواق نخاسة المهنة، وإن لم يستجب أحد لندائي، فليس هناك من ثمة قلق، فقد خلدت إسمك في الضمائر وبقيت حياً فينا، وستظل حياً فينا، تدعو لك كل جوارحنا ومشاعرنا، وأنت عند ربك حياً ترزق إن شاء الله، وفي أعلى مراتب الجنان.